فصل: سورة الأنفال

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وقال شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ الله‏:‏

قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 88، 89‏]‏، ظاهره دليل على أن شعيبا والذين آمنوا معه كانوا على ملة قومهم؛ لقولهم‏:‏‏{‏أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا‏}‏، ولقول شعيب‏:‏ أنعود فيها ‏{‏أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ‏}‏، ولقوله‏:‏ ‏{‏قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم‏}‏ فدل على أنهم كانوا فيها‏.‏ ولقوله‏:‏‏{‏بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا‏}‏‏.‏

فدل على أن الله أنجاهم منها بعد التلوث بها؛ ولقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا‏}‏، ولا يجوز أن يكون الضمير عائدًا على قومه؛ لأنه صرح فيه بقوله‏:‏ ‏{‏لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ‏}‏؛ ولأنه هو المحاور له بقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَوْ كُنَّا‏}‏ إلى آخرها، وهذا يجب أن يدخل فيه المتكلم، ومثل هذا فى سورة إبراهيم‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ‏}‏ الآية ‏[‏إبراهيم‏:‏13‏]‏‏.‏

/ وَقَالَ شيخ الإسلام‏:‏

هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد فى طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها، ومنها قوله‏:‏‏{‏لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 88‏]‏ وما فى معناها‏.‏

التحقيق‏:‏ أن الله ـ سبحانه ـ إنما يصطفى لرسالته من كان خيار قومه حتى فى النسب، كما فى حديث هرقل‏.‏ ومن نشأ بين قوم مشركين جهال، لم يكن عليه نقص إذا كان على مثل دينهم، إذا كان معروفًا بالصدق والأمانة، وفعل ما يعرفون وجوبه، وترك ما يعرفون قبحه‏.‏

قال تعالى‏:‏‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏، فلم يكن هؤلاء مُسْتَوْجبين العذاب، وليس فى هذا ما يُنَفِّر عن القبول منهم؛ ولهذا لم يذكره أحد من المشركين قادحًا‏.‏

وقد اتفقوا على جواز بعثة رسول لا يعرف ما جاءت به الرسل قبله من النبوة والشرائع، وأن من لم يقر بذلك بعد الرسالة فهو كافر ، / والرسل قبل الوحى لا تعلمه فضلاً عن أن تقر به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ‏}‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏ 2‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى

مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 15‏]‏، فجعل إنذارهم بالتوحيد كالإنذار بيوم التلاق، وكلاهما عرفوه بالوحى‏.‏

وما ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بُغِّضَت إليه الأوثان، لا يجب أن يكون لكل نبى، فإنه سيد ولد آدم، والرسول الذى ينشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم يكون أكمل من غيره، من جهة تأييد الله له بالعلم والهدى، وبالنصر والقهر، كما كان نوح وإبراهيم‏.‏

ولـهذا يضيف الله الأمر إليهما فى مثل قولـه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ‏}‏ الآيـة ‏[‏الحديد‏:‏ 26‏]‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 33‏]‏ وذلك أن نوحًا أول رسول بعث إلى المشركين، وكان مبدأ شركهم من تعظيم الموتى الصالحين‏.‏ وقوم إبراهيم مبدأه من عبادة الكواكب، ذاك الشرك الأرضى، وهذا السماوى؛ ولهذا سد صلى الله عليه وسلم ذريعة هذا وهذا‏.‏

/ وَقَالَ شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ الله‏:‏

قد أخبر الله بأنه بارك فى أرض الشام فى آيات، منها قوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏137‏]‏‏.‏

ومنها قوله‏:‏ ‏{‏وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 71‏]‏‏.‏

ومنها قوله‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏81‏]‏‏.‏

ومنها قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 18‏]‏ وهى قرى الشام، وتلك قرى اليمن، والتى بينهما قرى الحجاز ونحوها وبادت‏.‏

ومنها قوله‏:‏ ‏{‏إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ ‏.‏

/َقَالَ شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ الله‏:‏

 فصـل

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏205‏]‏، فأمر بذكر الله فى نفسه، فقد يقال‏:‏ هو ذكره فى قلبه بلا لسانه؛ لقوله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ‏}‏ ، وقد يقال‏:‏ ـ وهو أصح ـ بل ذكر الله فى نفسه باللسان مع القلب، وقوله‏:‏ ‏{‏وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ‏}‏ كقوله‏:‏‏{‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏‏.‏

وفى الصحيح عن عائشة قالت‏:‏ نزلت فى الدعاء، وفى الصحيح عن ابن عباس قال‏:‏ كان النبى صلى الله عليه وسلم يجهر بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله، ومن أُنزل عليه، فقال الله‏:‏ لا تجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبوا القرآن، ولا تخافت به عن أصحابك فلا يسمعوه، فنهاه عن الجهر والمُخافَتة‏.‏ فالمُخافَتة هى ذكره فى نفسه، والجهر المنهى عنه هو الجهر المذكور فى قوله‏:‏ ‏{‏وَدُونَ الْجَهْرِ‏}‏ / فإن الجهر هو الإظهار الشديد، يقال‏:‏ رجل جهورى الصوت، ورجل جهير‏.‏

وكذلك قول عائشة فى الدعاء، فإن الدعاء كما قال تعالى‏:‏‏{‏ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 55‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 3‏]‏، فالإخفاء قد يكون بصوت يسمعه القريب وهو المناجاة، والجهر مثل المناداة المطلقة، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم ـ لما رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير ـ فقال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تَدْعُون أصمَّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذى تدعونه أقرب إلى أحدكم من عُنُق راحلته‏)‏‏.‏

ونظير قوله‏:‏ ‏{‏وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 205‏]‏، قوله صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربه‏:‏ ‏(‏من ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى،ومن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منه‏)‏، وهذا يدخل فيه ذكره باللسان فى نفسه،فإنه جعله قسيم الذكر فى الملأ،وهو نظير قوله‏:‏ ‏{‏$ّدٍونّ بًجّهًرٌ مٌنّ بًقّوًل ‏}‏، والدليل على ذلك أنه قال‏:‏‏{‏بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ‏}‏ ومعلوم أن ذكر الله المشروع بالغدو والآصال فى الصلاة، وخارج الصلاة هو باللسان مع القلب، مثل صلاتى الفجر والعصر، والذكر المشروع عقب الصلاتين، وما أمر به النبى صلى الله عليه وسلم وعلَّمه وفعله من الأذكار والأدعية المأثورة من عمل اليوم والليلة المشروعة / طرفى النهار بالغدو والآصال‏.‏

وقد يدخل فى ذلك ـ أيضًا ـ ذكر الله بالقلب فقط، لكن يكون الذكر فى النفس كاملا وغير كامل، فالكامل باللسان مع القلب، وغير الكامل بالقلب فقط‏.‏

ويشبه ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 8‏]‏، فإن القائلين بأن الكلام المطلق كلام النفس استدلوا بهذه الآية، وأجاب عنها أصحابنا وغيرهم بجوابين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم قالوا بألسنتهم قولاً خفيًا‏.‏

والثانى‏:‏ أنه قيده بالنفس، وإذا قيد القول بالنفس فإن دلالة المقيد خلاف دلالة المطلق‏.‏ وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله تجاوز لأمتى عما حَدَّثَتْ به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به‏)‏ فقوله‏:‏ حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به‏:‏ دليل على أن حديث النفس ليس هو الكلام المطلق، وأنه ليس باللسان‏.‏

وقد احتج بعض هؤلاء بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 13‏]‏، وجعلوا القول المسر فى القلب دون اللسان؛ لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏، وهذه حجة ضعيفة جدًا؛ لأن / قوله‏:‏ ‏{‏وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ‏}‏ يبين أن القول يسر به تارة ويجهر به أخرى، وهذا إنما هو فيما يكون فى القول الذى هو بحروف مسموعة‏.‏

وقوله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنه إذا كان عليمًا بذات الصدور، فعلمه بالقول المسر والمجهور به أولى‏.‏

ونظيره قوله‏:‏ ‏{‏سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 10‏]‏‏.‏

/  سورة الأنفال

وقال شيخ الإسلام‏:‏

 فصـل

قال ـ سبحانه ـ فى قصة بدر‏:‏ ‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 9، 10‏]‏، فوعدهم بالإمـداد بألف وعـدًا مطلقًا، وأخبر أنـه جعل إمداد الألف بُشْرى ولم يقيده، وقال فى قصة أحد‏:‏ ‏{‏إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏124، 125‏]‏، فإن هذا أظن فيه قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنـه متعلق بأُحُـد؛ لقـولـه بعـد ذلك ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ الآيـة ‏[‏آل عمران‏:‏127‏]‏؛ ولأنه وعد مقيد، وقوله فيه‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 126‏]‏، يقتضى خصوص البشرى بهم‏.‏

وأما قصة بدر، فإن البشرى بها عامة، فيكون هذا كالدليل على ما روى من أن ألف بدر باقية فى الأمة، فإنه أطلق الإمداد والبشرى وقدم ‏{‏بِهِ‏}‏ على ‏{‏لَكُمْ‏}‏ عناية بالألف، وفى أحد كانت العناية بهم لو صبروا فلم يوجد الشرط‏.‏

/وَقَالَ ـ رَحِمَهُ الله‏:‏

 فصـل

فى قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه مبنى على أن الفعل المتولد ليس من فعل الآدمى، بل من فعل الله، والقتل هو الإزهاق، وذاك متولد، وهذا قد يقوله من ينفى التولد وهو ضعيف؛ لأنه نفى الرمى أيضًا، وهو فعل مباشر؛ ولأنه قال‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 93‏]‏، فأثبت القتل؛ ولأن القتل هو الفعل الصالح للإزهاق، ليس هو الزهوق، بخلاف الإماتة‏.‏

الثانى‏:‏ أنه مبنى على خلق الأفعال، وهذا قد يقوله كثير من الصوفية، وأظنه مأثورًا عن الجنيد سلب العبد الفعل، نظرًا إلى الحقيقة؛ لأن الله هو خالق كل صانع وصنعته، وهذا ضعيف لوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ إنا وإن قلنا بخلق الفعل فالعبد لا يسلبه، بل يضاف / الفعل إليه ـ أيضًا ـ فلا يقال‏:‏ ما آمنت ولا صليت، ولا صمت، ولا صدقت، ولا علمت، فإن هذا مكابرة؛ إذ أقل أحواله الاتصاف وهو ثابت‏.‏

وأيضًا، فإن هذا لم يأت فى شىء من الأفعال المأمور بها إلا فى القتل والرمى ببدر، ولو كان هذا لعموم خلق الله أفعال العباد لم يختص ببدر‏.‏

الثالث‏:‏ أن الله ـ سبحانه ـ خرق العادة فى ذلك، فصارت رؤوس المشركين تطير قبل وصول السلاح إليها بالإشارة، وصارت الجريدة تصير سيفًا يُقْتَل به‏.‏

وكذلك رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابت من لم يكن فى قدرته أن يصيبه، فكان ما وجد من القتل وإصابة الرمية خارجًا عن قدرتهم المعهودة، فسلبوه لانتفاء قدرتهم عليه، وهذا أصح، وبه يصح الجمع بين النفى والإثبات ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ‏}‏ أى ما أصبت ‏{‏إِذْ رَمَيْتَ‏}‏ إذ طرحت ‏{‏وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏، أصاب‏.‏

وهكذا، كل ما فعله الله من الأفعال الخارجة عن القدرة المعتادة، بسبب ضعيف، كإنباع الماء وغيره من خوارق العادات، أو الأمور الخارجة عن قدرة الفاعل، وهذا ظاهر، فلا حجة فيه لا على الجبر ولا على نفى التولد‏.‏

/وَقَالَ ـ رَحِمَهُ الله‏:‏

فصـل

فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏، والكلام عليها من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ فى الاستغفار الدافع للعذاب‏.‏

والثانى‏:‏ فى العذاب المدفوع بالاستغفار‏.‏

أما الأول، فإن العذاب إنما يكون على الذنوب، والاستغفار يوجب مغفرة الذنوب التى هى سبب العذاب، فيندفع العذاب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏1 ـ 3‏]‏، فبين ـ سبحانه أنهم إذا فعلوا ذلك متعوا متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى،ثم إن كان لهم فضل أُوتوا الفضل‏.‏

/ وقال تعالى‏:‏ عن نوح‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا‏}‏ الآية ‏[‏نوح‏:‏ 2 ـ 11‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏52‏]‏، وذلك أنه قد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏155‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏165‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏79 ‏]‏‏.‏

وأما العذاب المدفوع، فهو يعم العذاب السماوى، ويعم ما يكون من العباد، وذلك أن الجميع قد سماه الله عذابًا، كما قال تعالى فى النوع الثانى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏49‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 14‏]‏، وكذلك‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏52‏]‏، إذ التقدير بعذاب من عنده أو بعذاب بأيدينا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ‏}‏‏.‏

/ وعلى هذا، فيكون العذاب بفعل العباد، وقد يقال‏:‏ التقدير‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ‏}‏، أو يصيبكم بأيدينا، لكن الأول هو الأوجه؛ لأن الإصابة بأيدى المؤمنين لا تدل على أنها إصابة بسوء، إذ قد يقال‏:‏ أصابه بخير، وأصابه بشر‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏107‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏48‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ

مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏56‏]‏؛ ولأنه لو كان لفظ الإصابة يدل على الإصابة بالشر، لاكتفى بذلك فى قوله‏:‏ ‏{‏أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ‏}‏‏.‏

وقد قال تعالى ـ أيضًا ـ‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78، 79‏]‏‏.‏

ومن ذلك قوله تعالى‏:‏‏{‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏‏.‏

/ ومن ذلك أنه يقال فى بلال ونحوه‏:‏ كانوا من المعذبين فى الله، ويقال‏:‏ إن أبا بكر اشترى سبعة من المعذبين فى الله‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏السفر قطعة من العذاب‏)‏‏.‏

وإذا كان كذلك، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏65‏]‏، مع ما قد ثبت فى الصحيحين عن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه لما نزل قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ‏}‏، قال‏:‏ ‏(‏أعوذ بوجهك‏)‏، ‏{‏أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏، قال‏:‏ ‏(‏أعوذ بوجهك‏)‏، ‏{‏أّوً يّلًبٌسّكٍمً شٌيّعْا $ّيٍذٌيقّ بّعًضّكٍم بّأًسّ بّعًضُ ‏}‏، قال‏:‏ ‏(‏هاتان أهون‏)‏ يقتضى أن لبسنا شيعًا وإذاقة بعضنا بأس بعض هو من العذاب الذى يندفع بالاستغفار، كما قال‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏25‏]‏، وإنما تنفى الفتنة بالاستغفار من الذنوب والعمل الصالح‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏39‏]‏، قد يكون العذاب من عنده، وقد يكون بأيدى العباد، فإذا ترك الناس الجهاد فى سبيل الله فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم العداوة، حتى تقع بينهم الفتنة كما هو الواقع، فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد فى سبيل الله جمع الله قلوبهم وأَلَّف بينهم، وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم ، / وإذا لم ينفروا فى سبيل الله عذبهم الله بأن يلبسهم شيعًا، ويذيق بعضهم بأس بعض‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 21‏]‏، يدخل فى العذاب الأدنى ما يكون بأيدى العباد، كما قد فسر بوقعة بدر بعض ما وعد الله به المشركين من العذاب‏.‏

/ سورة التوبة

وقال‏:‏

قد يستدل بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏23‏]‏، على أن الولد يكون مؤمنًا بإيمان والده؛ لأنه لم يذكر الولد فى استحبابه الكفر على الإيمان، مع أنه أولى بالذكر، وما ذاك إلا أن حكمه مخالف لحكم الأب والأخ‏.‏ وهو الفرق بين المحجور عليه لصغره وجنونه، وبين المستقل، كما استدل سفيان بن عُيَيْنَةَ وغيره بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏61‏]‏، أن بيت الولد مندرج فى بيوتكم؛ لأنه وماله لأبيه‏.‏

ويستدل بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏75‏]‏، على أن إسلام الوليد صحيح؛ لأنه جعله من جملة القائلين قول من يطلب الهجرة، وطلب الهجرة لا يصح إلا بعد الإيمان، وإذا كان له قول فى ذلك معتبر كان أصلا فى ذلك، ولم يكن تابعًا، بخلاف الطفل الذى لا تمييز له؛ فإنه تابع لا قول له‏.‏

/ سُـئِلَ ـ رَحِمَـهُ الله ـ عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏30‏]‏، كلهم قالوا ذلك أم بعضهم‏؟‏ وقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال لهم‏:‏ ما كنتم تعبدون‏؟‏ فيقولون‏:‏ العزير‏)‏ الحديث‏.‏ هل الخطاب عام أم لا‏؟‏‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، المراد باليهود جنس اليهود، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏، لم يقل جميع الناس، ولا قال‏:‏ إن جميع الناس قد جمعوا لكم، بل المراد به الجنس‏.‏

وهذا كما يقال‏:‏ الطائفة الفلانية تفعل كذا، وأهل الفلانى يفعلون كذا، وإذا قال بعضهم فسكت الباقون ولم ينكروا ذلك، فيشتركون فى إثم القول‏.‏ والله أعلم ‏.‏

/ وَقَــالَ‏:‏

فى الكلام على قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏65‏]‏، تدل على أن الاستهزاء بالله كفر، وبالرسول كفر، من جهة الاستهزاء بالله وحده كفر بالضرورة، فلم يكن ذكر الآيات والرسول شرطًا، فعلم أن الاستهزاء بالرسول كفر، وإلا لم يكن لذكره فائدة، وكذلك الآيات‏.‏

وأيضًا، فالاستهزاء بهذه الأمور متلازم، والضالون مستخفون بتوحيد الله ـ تعالى ـ يعظمون دعاء غيره من الأموات، وإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا به، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا‏}‏ الآية ‏[‏الفرقان‏:‏41‏]‏، فاستهزؤوا بالرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الشرك، وما زال المشركون يسبون الأنبياء، ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون إذا دعوهم إلى التوحيد، لما فى أنفسهم من عظيم الشرك‏.‏

وهكذا، تجد من فيه شبه منهم إذا رأى من يدعو إلى التوحيد استهزأ بذلك، لما عنده من الشرك، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، فمن أحب مخلوقًا مثل ما يحب الله فهو مشرك، ويجب الفرق بين الحب فى الله والحب مع الله‏.‏

فهؤلاء الذين اتخذوا القبور أوثانًا تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله وعبادته، ويعظمون ما اتخذوه من دون الله شفعاء، ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذبًا، ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذبًا‏.‏

وكثير من طوائف متعددة ترى أحدهم يرى أن استغاثته بالشيخ إما عند قبره، أو غير قبره، أنفع له من أن يدعو الله فى المسجد عند السحر، ويستهزئ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد، وكثير منهم يخربون المساجد ويعمرون المشاهد، فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وبآياته ورسوله وتعظيمهم للشرك‏؟‏

وإذا كان لهذا وقف،ولهذا وقف ، كان وقف الشرك أعظم عندهم ، مضاهاة لمشركى العرب،الذين ذكرهم الله فى قوله‏:‏‏{‏وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏136‏]‏ ، فيفضلون مـا يجعل لغير الله على ما يجعل لله،ويقولون ‏:‏ الله غنى وآلهتنا فقيرة‏.‏

وهؤلاء، إذا قصد أحدهم القبر الذى يعظمه يبكى عنده، ويخشع / ويتضرع ما لا يحصل له مثله فى الجمعة، والصلوات الخمس، وقيام الليل، فهل هذا إلا من حال المشركين لا الموحدين، ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم سماع الأبيات، حصل له من الخشوع والحضور ما لا يحصل له عند الآيات، بل يستثقلونها ويستهزئون بها، وبمن يقرؤها مما يحصل لهم به أعظم نصيب من قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏65‏]‏‏.‏

والذين يجعلون دعاء الموتى أفضل من دعاء الله‏:‏ منهم من يحكى أن بعض المريدين استغاث بالله فلم يغثه، واستغاث بشيخه فأغاثه، وأن بعض المأسورين دعا الله فلم يخرجه، فدعا بعض الموتى، فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام‏.‏ وآخر قال‏:‏ قبر فلان التِرْيَاق المُجَرِّب‏.‏

ومنهم من إذا نزل به شدة لا يدعو إلا شيخه قد لهج به كما يلهج الصبى بذكر أمه‏.‏ وقد قال تعالى للموحدين‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 200‏]‏، وقد قال شعيب‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏92‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 13‏]‏‏.‏